الخميس، 4 أكتوبر 2012

~ مكتوب ~






المسافر جالسٌ في الغابة, على ركبتيه كومة من الملاحظات المدونة, ينظر إلى المسكن المتواضع القابع أمامه. يذكر أنه سبقَ وجاءه برفقة أصدقاء.
حينها, لاحظ فقط أن الأسلوب الهندسي لهذا المنزل يعود إلى مهندس لم تطأ قدمه هذا المكان مطلقاً. يقعُ المنزل بالقرب من "كابو فريو" في ولاية "ريو دي جانيرو" وهو مصنوع بالكامل من بقايا قطع زجاجية.
عام 1899, تراءى ملاك في الحلم لمالكه الأول غابرييل, والذي أوحى إليه بقوله: "ابن منزلاً من الشَقَف". أخذ غابرييل يجمع المربعات المهشمة, والصحون, والتحف والقناني المكسورة. "كل قطعة تتحول جمالاً", قالها غابرييل عن صنيعه. وعلى مدى أربعة عقود, كان أهل الجوار على يقين بأن هذا الرجل مجنون, لكن فيما بعد, اكتشف سياح منزله وتناقلته ألسنتهم. أصبح غابرييل عبقرياً. ثم خَفَت تأثير عنصر الحداثة وعاد غابرييل ليُمسي طي الكتمان. مع ذلك, ظل يبني. وعن ثلاثة وتسعين من العمر, وضع آخر كسرة من زجاج و... مات.

يُشعل المسافر سيجارة, يدخنها بصمت. لا يفكر اليوم بالشبه الذي أقامه بين منزل غابرييل وهندسة أنطونيو غودي المعمارية. ينظر إلى قطع الزجاج ويتأمل حياته. هي, شأنها شأن كل وجود, تقوم على قطع من كل ما حدث له. مع ذلك, وفي لحظة من اللحظات, بدأت تلك العناصر تتخذ شكلاً.
والمسافر, إذ يقع نظره على الأوراق على ركبتيه, يروح إلى ماضيه, استذكاراً. فيه قطع من حياته: الحالات التي عاشها, مقتطفات من كتب لم ينسها, تعاليم معلمه, قصص تلاها عليه أصدقاؤه يوماً. فيه أيضاً انعكاسات على زمنه وأحلام جيله.
وكما تراءى لغابرييل ملاك في الحلم وراح يبني المنزل الذي يقبع الآن أمام المسافر, هو أيضاً يجهد في تنظيم أوراقه ليفهم بناءه الروحي.
يتذكر صغيراً أنه قرأ كتاباً لـ "ماليا طاهان" عنوانه "مكتوب" ويسر لنفسه: يجدر بي القيام بالمثل.


مكتوب يعني "ما كُتب لنا". بالنسبة للعرب, ليس ما "كُتب لنا" بمصطلح صحيح, فمع أن كل شئ مكتوب, يظل الله رحيماً ولا يستعمل ريشته والدواة إلا ليكون لنا معيناً.

المسافر في نيويورك. يستيقظ متأخراً, وعندما يخرج من الفندق يجد أن الشرطة قد حملت سيارته. يصل متأخراً إلى موعده, وتطول جلسة الغداء بما لا يلزم, وهو يفكر بالغرامة التي عليه دفعها والتي ستكلفه ثروة.
فجأة, يخطر له الدولار الذي وجده أمس. ينسج علاقة ما فوق طبيعية بين ورقة العملة هذه وأحداث الصبيحة.
"من يدري إن كنت, بالتقاطي ورقة العملة هذه, قد سبقتُ من كان مقدراً له أن يجدها؟ لربما أبعدتُ هذا الدولار عن درب شخص كان بحاجة إليه. لربما تدخلت في ما هو مكتوب".
يشعر بالحاجة إلى التخلص من ورقة العملة. في هذه اللحظة, يرى متسولاً يجلس أرضاً ويعطيها له.
يتعجب هذا الأخير قائلاً: "لحظة. أنا شاعر. سوف أتلو عليك قصيدة, عربون شكري لك".
يجيب الرجل: "إذاً, فلتقتضب, أنا على عجلة".
يرد المتسول: "ما دمت على قيد الحياة, فهذا يعني أنك لم تصل بعد إلى حيث عليك الوصول".

هناك 4 تعليقات:

  1. الله الله , جميلة للغـاية
    و خاصة الفقـرة الأخيرة صاحب القطعة النقدية ! أو العملة بالأصح

    شكـراً لك و لقلمك و لهذه النبذة الرائعة
    حتماً سأحاول أن أقرأ الكتاب بأقرب وقت ^__^

    ردحذف
    الردود
    1. عفواً، الشكر الحقيقي لصاحب الحروف الذهبية فأنا لم أفعل شيئاً سوى أنني نقلتها هنا،

      المؤلف معروف عنه أنه يتسم بالحكمة وقد تم تكريمه بالعديد من الجوائز تقديراً لأعماله الأدبية الرائعة،
      وهذا الكتاب لا يقلّ أهمية عن مؤلفاته الأخرى، والجميل فيه أنه يحوي بداخله العديد من الحكايا الصغيرة والمواقف التي عاشها، والأساطير والحضارات التي سمع عنها، وكل مقطع "قصة" تحمل في ثناياها حكمة مميزة،

      أنصح الجميع بقراءته ومحاولة الاستفادة من النصائح المقدمة فيه.

      حذف
  2. سرد أخاذ
    شكرا لنقلك عائشة
    ما ظهرت لي الصورة للأسف
    من المؤلف ومن أي كتاب

    ردحذف
    الردود
    1. الكتاب اسمه "مكتوب" لباولو كويلو من أفضل كتبه بعد الخيميائي -بالنسبة لي- مع أنني للأن لم أقتن أي منهما ^^

      حذف