الثلاثاء، 19 فبراير 2013

من المسؤول؟








"المثقفون يأتون لحل المشاكل بعد وقوعها .. و العباقرة يسعون لمنعها قبل أن تبدأ!" -ألبرت آينشتاين.



قبل فترة كنت أقرأ في إحدى روايات الكاتب البرازيلي باولو كويلو "Aleph", أثناء زيارته لتونس كان برفقته هو وزوجته أحد السكان المحليين ليطلعه على المكان. خلال تجوالهم مروا أمام أحد القصور التي شُيدت عام 1754م. حكى الدليل لهما السبب وراء بناء هذا القصر وهو أن رجلاً قتل أخاه فقام والدهما ببناء القصر كمدرسة إحياءً لذكرى ولده المقتول. قال باولو معلقاً أن هذا بالتأكيد سيحتفظ أيضاً بذكرى الرجل الذي ارتكب الجريمة. أجابه الدليل "ليس بالضبط. في ثقافتنا المجرم يتشارك بذنبه مع كل هؤلاء الذين سمحوا له بارتكاب الجريمة. عندما يُقتل رجلٌ ما فإن الشخص الذي باع السلاح هو أيضاً مسؤول أمام الله. الطريقة الوحيدة لكي يُصحح الأب ما كان خطأً منه هي بتحويل هذه المأساة إلى شئ يفيد الآخرين".

عندما سمعت بما حدث للطفلة رهام لأول مرة لم أستطع سوى أن أتذكر هذه القصة. كُنت أتسائل كما الجميع من هو المسؤول خلف ذلك؟ وما الذي يجب فعله بعد كل ما حصل؟ وقد شعرت بالألم فعلاً حين أدركت حقيقة الأمر. عندما ننظر لمثل هذه المشاكل الكبيرة أو كما يقول عنها البعض "كوارث" ونتفحصها يظهر لنا أنها قد نشأت أساساً نتيجة لتراكمات عديدة, مشاكل صغيرة تراكمت على مر السنوات لتتفجر في النهاية "القنبلة الكبيرة". لذلك أعتقد أن ما نحتاجه بدايةً هو العودة إلى الجذور الأصلية لهذه المشكلة, إلى مجموعة المشاكل التي أحدثت هذه النتيجة بالنهاية. عندما يتم تحليل الموقف بدقة نستطيع أن نحدد ما الذي نحتاجه بالضبط لتصحيح الوضع واقتراح حلول جذرية ومفيدة تخدم الجميع على  مدى السنوات المقبلة بإذن الله. وأعتقد بأن هذا هو ما سيمنح هذه الطفلة البريئة القدرة على الإبتسامة مجدداً وسيرسم البسمة أيضاً على وجه كل رهام أتت وسوف تأتي لهذا العالم.

من المسؤول؟ سؤال كبير يُطرح والجواب أكبر من أن يُحد بمجموعة معينة من الأشخاص, فالكل هنا بلا استثناء قد شارك فيما حصل بشكل أو بآخر, طبعاً بدرجات مُتفاوتة لكن يبقى أننا جميعاً من تسبب بذلك. نعم أنا وأنت والمجتمع بأجمع له يدٌ في ذلك, كما قال الدليل في القصة "المجرم يتشارك بذنبه مع كل من سمحوا له بارتكاب الجريمة" ونحن مع الأسف قد سمحنا ومهدنا الطريق لحصول ذلك بكل سهولة. قال لوثر كينغ مقولة قوية جداً بهذا الخصوص "المصيبة ليست في ظلم الأشرار بل في صمت الأخيار", عندما يتوقف أحدنا عن المطالبة بأبسط حقوقه فهو بذلك قد شارك بجزء من تكوين المشكلة, هو قد لا يكون واعياً لذلك لكن هذا هو ما يحصل بالفعل!

حين قمت بتحليل ما حصل -حسب نظرتي الشخصية- توصلت إلى بعض الأسباب التي أدت في النهاية لهكذا مشكلة سأحاول طرحها بطريقة السبب والعلاج وأرجو ألا أكون قد أغفلت أي جزء:
1- برأيي أن أول سبب ساهم بالقدر الكبير فيما حصل هو قلة الوعي لدى الأفراد, كشخص بالغ مسؤول عن نفسي والأعظم من ذلك مسؤول عن أسرة, أقل شئ يجب علي الاهتمام به هو الحالة الصحية, من ناحية الصحة ومن ناحية الحقوق, إذا كنت أنا أو أحد أفراد أسرتي أعاني من أحد الأمراض وراثية أو خلافه فما يجب علي فعله هو أن أكون واعي تماماً بهذا المرض من كل جوانبه, يجب علي أن أقرأ قدر المُستطاع حوله, وإن كنت لا أستطيع القراءة أستعين بأي شخص يساعدني للوصول إلى المعلومة ولا أعتقد بأن أحداً قد يتوانى عن فعل ذلك. هذا من الناحية الصحية, أما من الناحية الحقوقية فيتوجب علي كمريض أن أكون على معرفة تامة بكافة حقوقي التي أستحقها, أبسطها أن أتتبع كل ما يجري حولي داخل غرفة الطبيب وألا أغفل عن أي شئ أو أجلس "مثل الأطرش في الزفة" أهز فقط برأسي بالإيجاب في حين أنني لا أعي ما يُقال أو ما يوصف لي من علاج! إسأل عن كل ما يحدث حولك وعن كل ما يُقال وعن كل إجراء يجب اتخاذه, عن مدى الأمان, عن البدائل, باختصار إسأل عن كل شئ.
2- سبب آخر وهو مهم بقدر أهمية السبب الأول, هو الفحص الطبي قبل الزواج, العديد من هذه الأسر قد تجنبت بشكل أو بآخر هذا الإجراء أو قد تكون تغاضت عن النتائج التي تم التوصل إليها. مع أنه يعتبر هو الحل الآمن والذي سيمنع بإذن الله وجود مثل هذه الحالات المرضية. حيث يهدف الفحص الطبي كما أوضحت وزارة الصحة إلى:
·        الحد من انتشار بعض أمراض الدم الوراثية(الثلاسيميا-المنجلي) وبعض الأمراض المعدية(التهاب الكبد ب/ج) ونقص المناعة المكتسب (الإيدز).
·        التقليل من الأعباء المالية الناتجة عن علاج المصابين على الأسرة والمجتمع .
·        تقليل  الضغط على المؤسسات الصحية وبنوك الدم .
·        تجنب المشاكل الاجتماعية والنفسية للأسر التي يعاني أطفالها.
·        رفع الحرج الذي لدى البعض في طلب هذا الفحص.
·        نشر الوعي بمفهوم الزواج الصحي الشامل.
3- من الأسباب تراكم الشعور بالذل والمهانة على مدى السنين والإحساس بالتفرقة بيننا وبين البقية, والمصيبة الأكبر هو اعترافهم بذلك حين تحدث البعض ليقول "لأننا مواطنين من جازان!" إن كنت ترى بأن من حولك ينتقص من حقك لا يعني ذلك أن تؤكد له ما يفكر فيه, لما لا نقوم بما نقتنع به فعلاً لنُغير من نظرة هؤلاء إلينا! لماذا علينا الحديث بما يتوقعونه عنا, لما لا نتحدث بما نتوقعه نحن عن أنفسنا!
4- المُساعدة العمياء! عندما يتقدم شخص بالمساعدة من جانب الشفقة وهو في الواقع غير مُقيم لتصرفاته فرجاءً لا أحد يحتاج لشفقتك المُميتة! إن أردت حقاً تقديم المُساعدة فتعلم أولاً كيف عليك أن تتصرف في مواقف مُشابهة وما هو القرار الذي يجب عليك اتخاذه ومتى, لكن أن تٌقدم على خطوات "اسمح لي بتسميتها غبية" فشكراً لاهتمامك لكن هذا لا يلزمنا!
5- أحد الأسباب أيضاً هو الجهود المُبعثرة هنا وهناك, وخاصةً فيما يتعلق بالفرق التطوعية, لست أرى صراحةً أي جدوى من هذا التبعثر لكل هذه الفُرق, لما لا تكون جميعها فريقاً واحداً وتعمل تحت خطة عمل موحدة, عندها يستطيعون إنجاز الكثير والوصول لعدد أكبر من الأسر التي تعيش في مثل حالة أسرة رهام وربما أسوأ, ويمكنها بذلك تدارك العديد من المشكلات قبل تفاقمها. وأضعف الإيمان هو المساهمة بنشر الوعي والتثقيف لأفراد هذه الأسر إن لم يكن بالإستطاعة تقديم المساعدة المادية.
*بالنظر إلى المساهمة التي قام بها بعض الشباب لمساعدة أسرة الطفلة فأنا أقدرها حقيقةً وأشكرهم لذلك, لكن لماذا علينا دائماً أن نتحرك بعد وقوع المشكلة؟ لما لا نحاول ولو مرة التفكير كعبقري ومنع المشكلة قبل بدايتها!
6- عدم الاهتمام الجدي بالتثقيف والقراءة, من قبل الأفراد والمجتمع على حد سواء, ما نحتاج إليه هو وجود مكتبة مُهتمة بذلك, لا أقصد مكتبة لبيع الكتب لأن البعض قد لا يستطيع تحمل تكلفة شراء كتاب, لذلك لما لا يكون لدينا مكتبات عامة تضم الكتب التي تُهم المجتمع وتفيد أفراده ويستطيع أي شخص أن يستعير الكتاب الذي يريده أو حتى يكون له مساحة مخصصة داخل المكتبة ذاتها لكي يقرأ ما يريد دون أن يُطالب بدفع شئ مقابل ذلك!
7- الرضا والإقتناع. الغالبية العظمى -وإن كنت أستطيع تقديم إحصائية فسأقول 80% تقريباً- راض تماماً عن الأحوال التي من حوله, لا يُحاول البحث أو المطالبة بأبسط حقوقه, لا يُقدم أي شكوى, لا يفعل أي شئ فيما يخدم مصلحته الخاصة, وكل ما يستطيع ترديده هو "احنا بخير, أحسن من غيرنا" لا تقارن نفسك فقط بمن هم أقل منك, أيضاً قارنها بمن هم أفضل منك حتى تتطور, كيف تتوقع من نفسك أن تعيش بكرامة إن كُنت لا تُحقق هذه الكرامة لنفسك! لا ترض أبداً بما هو دون المستوى.
8- الإهمال, إنعدام الأمانة, إنعدام الحس بالمسؤولية ... والعديد مما قد تحدث عنه الأغلبية, أعتقد أن الأمر ناتج عن برمجة مُعينة اعتاد عليها المُجتمع, نتاج منظومتين كبيرتين هما التربية والتعليم -مع الأسف- فإلى الآن لا نزال نرى نماذج عديدة من المعلمين وأولياء الأمور على حد سواء ممن هم ليسوا على قدر من المسؤولية, وغاب عن وعيهم أنهم هم الأساس والقدوة لكل هؤلاء الذين يتخرجون على أيديهم. إن كان من تعتبره قدوة لك لا يُطبق شيئاً من المعايير الأخلاقية وكل ما يفعله هو تكرار أفعال يمكن القول عنها بأنها غير مسؤولة فلا عجب صراحةً فيما نراه الآن. ما يجب أن يحصل هو إعادة تأهيل هؤلاء المعلمين والأولياء ليكونوا أشخاص أهل للثقة "الأخلاقية" وأرى بأنه من المُفترض أن يٌدرج من ضمن المناهج -بدءاً من أول سنة دراسية وحتى آخر سنة جامعية- منهج خاص بالأخلاق وآخر خاص بالحقوق.

على الأرجح هذه هي مُجمل الأسباب المُتراكمة التي تؤدي لمثل هذه المشاكل وربما أكبر وإن لم يتم التعامل معها بجدية والإسراع بتطبيق الحلول المُناسبة فإن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد. يجب علينا الإستفادة من مثل هذه الأزمات وتحويلها إلى فرص, يجب أن "نحول هذه المأساة إلى شئ يُفيد الآخرين".

أخيراً سأتطرق إلى التعليق على بعض ردود الفعل:
1- الغضب الذي اجتاح الجميع وهو أمر جيد حقاً أن تغضب لأجل هكذا قضايا وتتفاعل معها, لكن هُناك من سمح لغضبه الزائد بأن يقوده إلى الإتجاه الخاطئ, أقرب مثال والذي أسائني كثيراً هو ما يقوم به البعض من السب والشتم والدعاء على الأشخاص المسؤولين عن الحادثة أو على الأشخاص الذين يُخالفوهم رأياً, بالعموم الأشخاص الذين تعرضوا بالإسائة. حين نُفكر في كيفية تعاملنا مع هكذا مواقف يجب علينا دائماً أن نسأل أنفسنا كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل مع مثل هذه المواقف؟
عندما تعرض الرسول للسب والشتم من قومه وعندما آذوه وطردوه, لم يرد لهم الإساءة بإساءة أخرى بل إنه دعا لهم في قوله (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) هذا كان تعامله مع الكافر فما بالك بالمسلم!
2- مبدأ الكراهية والحقد للمُخطئ وهو مبدأ غير صحيح أبداً وليس من الإسلام في شئ. من المُمكن أن أكره الخطأ الذي وقع فيه وأستنكره لكن أن يتحول هذا إلى الشخص ذاته وإلغاؤه من القائمة فهذا التصرف غير سليم بتاتاً. يبقى الإنسان فيه خير ويبقى لديه جوانب إيجابية وأعمال جيدة تشفع له وإن كان قد اقترف خطأً كبيراً, يُعاقب على ذلك الخطأ من قبل القانون على قدر الخطأ الذي ارتكبه ولكن لا يتم محوه كلياً.
3- لا يُهمني أمر الوزير ولا الذين تسببوا بالخطأ, ما يُهم فعلاً هو التعويض عن هذه الخسائر وهو الأمر الذي كان يجب علينا التشديد بالمُطالبة به, تحسين الأوضاع, بناء مشاريع جديدة كإنشاء مُستشفيات جديدة كلياً بكوادر طبية مؤهلة "تعمل وتتجنب الخطأ قدر المستطاع" وإغلاق السابقة نهائياً والمُطالبة بكل ما يقدم العناية الأفضل للفرد في مجتمعه.

هناك 10 تعليقات:

  1. اجدت الوصف

    ام المثقفون معهم اقلامهم. والوزاء قرارتهم الجوفاء

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً لك أستاذ .. تحياتي.

      حذف
  2. الشق اكبر من الرقعة
    الأزمة ازمة تعليم
    طالما التعليم سيئ فحال البلد يسير من سيئ لأسوء
    الله المستعان

    ردحذف
    الردود
    1. على أمل أن تتحسن الأوضاع قريباً .. فكل أزمة هي عبارة عن فرصة .. تحياتي لك أستاذ وشكراً لتفاعلك.

      حذف
  3. اختصرتي الأسباب التي تسبب في كثير من المشكلات في المجتمع, وأتمنى أن تلقى لها صدى ممن يستطيعون التغيير.
    صحيح أن بعض ما ذكرتي هو خطأ يقع على عاتق الفرد قبل المجموعة, ولكن أيضاً يجب على من له سلطة وقوة أن يبدأ بوضع أسس تساعد على تجنب الأخطاء الفادحة التي تحدث كل يوم, وخاصة هنا في المجال الطبي.

    استمتعت بمشاركتك لنا بأفكارك, النيّرة والمفيدة.
    بارك الله فيك عائشة.

    ردحذف
    الردود
    1. ويبارك فيك حبيبتي منى .. شكراً على الرد .. مودتي.

      حذف
  4. اجدتي التوصيف ولكن هل يوجد من يعي

    ردحذف
    الردود
    1. نأمل أن يكون هناك من هو كذلك!

      حذف
  5. مقال من ذهب
    بوركت
    بحثت عنك ووجدتك هنا

    ردحذف